سيرة الامام احمد بن حنبل امام اهل السنه والجماعه
سمه ومولده:
ــ هو أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني، أصله من البصرة، ولد عام ( 164 ) هـ، في بغداد وتوفي والده وهو صغير، فنشأ يتيماً، وتولَّت رعايته أمه.
وقفة: اليتيم قد يكون ناجـحـاً في حياته:
ــ نشأ الإمام أحمد ــ رحمه الله ــ في طلب العلم، وبدأ في طلب الحديث وعمرهُ خمس عشرة سنة، ورحل للعلم وعمرهُ عشرون سنة، والـتقى بعدد من العلماء منهم: الشافعي في مكة، ويحيى القطَّان، ويزيد بن هارون في البصرة.
ورحل من العراق إلى اليمن مع يحيى بن مُعين، فلمَّا وصلا إلى مكة وجدا عبد الرزاق الصنعاني أحد العلماء في اليمن، فقال يحيى بن معين يا إمام يا أحمد: نحنُ الآن وجدنا الإمام، ليس هناك ضرورة في أن نذهب إلى اليمن، فقال الإمام أحمد: أنا نويت أن أُسافر إلى اليمن، ثم رجع عبد الرزاق إلى اليمن ولَحِقـا به إلى اليمن، وبَقِيَ الإمام أحمد في اليمن عشرة أشهر، ثم رجع مشياً على الأقدام إلى العراق.
فلمَّا رجع رأوا عليه آثار التعب والسفر فقالوا له: ما الذي أصابك ؟ فقال الإمام أحمد: يهون هذا فيما استفدنا من عبد الرزاق.
* مِنْ عُلوا الهمَّـة عند الإمام أحمد وهو صغير، يقول: ربما أردتُ الذهاب مبكراً في طلب الحديث قبل صلاة الفجر، فتأخذ أمي بثوبي وتقول: حتى يؤذِّن المؤذِّن.
ثـناء العلمـاء على الإمـام أحمـد:
* قال عبد الرزاق شيخ الإمام أحمد: ما رأيت أحداً أفْـقَـه ولا أوْرع من أحمد.
* قالوا: إذا رأيتَ الرجل يحبُ الإمام أحمد فاعلم أنَّـه صاحب سنة.
* قال الشافعي وهو من شيوخ الإمام أحمد: خرجتُ من بغداد فما خلَّفتُ بها رجلاً أفضل ولا أعلم ولا أفْـقَـه من أحمد بن حنبل.
* قال يحيى بن معين: أراد الناس أن يكونوا مثـل أحمد بن حنبل ! لا والله، ما نقوى على ما يقوى عليه أحمد، ولا على طريقة أحمد.
* كان الإمام أحمد يحفظ ( ألف ألف ) حديث، يعني ( مليون ) حديث. أي مجموع الروايات والأسانيد والطرق للأحاديث.
* مِنْ حِفْـظِ الإمام أحمد للحديث كان يقول لابنـه: اقرأ عليَّ الحديث وأُخبركُ بالسند، أو اقرأ عليَّ الإسناد لأخبرك بالحديث.
عِفَّـة الإمـام أحمـد:
* لمَّا رحل لطلب العلم لم يكن لديه مال، فـكان يحمل البضائع على الجمال وعلى الحمير فيأخذ من هذا درهم ومن هذا درهم، فيعيش بهذه الدراهم، وفي الصباح يطلب العلم حتى يستغني عن سؤال الناس، ( عِـفَّـة وطلب علم ).
كان الإمـام أحمد يكره الشُهرة والثناء:
* دخل عليه عمُّـهُ وكان الإمام أحمد حزين، فقال عمُّـهُ: ماذا بك ؟ فقال الإمام أحمد: طُوبى لِمَنْ أخْمَلَ الله ذكره، ( يعني من لم يكن مشهوراً، ولا يعلم به إلاَّ اللـه ).
* وقال أيضاً: أريدُ أنْ أكونَ في شِعْبِ مكـة حتى لا أُعْـرَفْ.
* وكان إذا أراد أنْ يمشي يكره أن يتبعه أحدٌ من الناس.
العمل بالعلم:
* قال الإمام أحمد ما كتبتُ حديثـاً إلاَّ وقد عملتُ بـه، حتى أنَّ النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ احْـتَـجَـمَ وأعطى الحجَّامَ أجره، فاحْـتَـجَـمَ الإمام أحمد وأعطى الحجَّام أجره.
أخلاق الإمـام أحمـد وآدابه:
* كان يحضر مجلس الإمام أحمد خمسة آلاف طالب، ( 500 ) كانوا يكـتبون العلم، والبقية ينظرون إلى أدبه وأخلاقه وسَمْتِـهِ.
* قال يحيى بن معين: ما رأيتُ مثـل أحمد، صحبناه خمسين سنة فما افـتخر علينا بشيء ممَّا كان فيه من الخير.
* كان الإمام أحمد مائلاً إلى الفقـراء، وكان فيه حِلْمْ، ولم يكن بالعجول، وكان كثير التواضع، وكانت تعلوه السكينة والوقار.
* قال رجل للإمام أحمد: جزاك الله عن الإسلام خيراً، فقال الإمام أحمد: بل جزى الله الإسلام عني خيراً، مَنْ أنا ؟ وما أنا ؟
* كان الإمام أحمد شديد الحياء، وأكرم الناس، وأحسنهم عِشْرةً وأدباً، لمْ يُسمع عنه إلاَّ المُذاكرة للحديث، وذِكْر الصالحين، وكان عليه وقارٌ وسكينة، ولفْـظٌ حَسَنْ.
عبادة الإمـام أحمـد بن حنبل:
* كان يُصلِّي في اليوم والليلة ( 300 ) ركعـة، فلمَّا سُجِنَ وضُرِبْ أصْـبَحَ لا يستطيع أنْ يُصلِّي إلاَّ ( 150 ) ركعة فـقـط.
* كان يَـخْـتِمُ القرآن كُلَّ أُسبوع.
* قال أحدُهُمْ: كُنْتُ أعرفُ أحمد بن حنبل وهو غُـلام كان يُحيي الليل بالصلاة.
* كان مِنْ عِبادته وزُهده وخوفه، إذا ذَكَـرَ الموت خَـنَـقَـتْـهُ العَبْرة.
* كان يقول: الخوف يمنعني الطعام والشراب، وإذا ذكرتُ الموت هانَ عليَّ كُلُّ أمْـرِ الدنيا.
* كان يصوم الإثـنين والخميس والأيام البيض، فلمَّا رَجَعَ مِنْ السجن مُجْهَداً أَدْمَنَ الصيام حتى مات.
* حَجَّ على قَدَميـه مرتين.
* في مَرَضِ الموت بَالَ دَمَـاً كثيراً، فقال الطبيب المُشْرف عليه: هذا رجُـلٌ قد فَـتَّتَ الخوف قلبـه.
أخبـار منوعـة في سيـرته:
* قابل الإمام أحمد بن حنبل أحدْ أبناء الإمام الشافعي فقال الإمام أحمد لابن الشافعي: أبُوكَ مِنَ السِّـتة الذينَ أدْعُـوا لهم في السَّحَـرْ.
* قيل للإمام أحمد:
كَمْ يكْفي الرجل حتى يُـفْـتِي ؟ مئـة ألف حديث ؟
قال الإمام أحمد: لا.
قال السائل: مائـتين ألف حديث ؟
قال الإمام أحمد: لا.
قال السائل: ثـلاثمائـة ألف حديث ؟
قال الإمام أحمد: لا.
قال السائل: أربعمائـة ألف حديث ؟
قال الإمام أحمد: لا.
قال السائل: خمسمائـة ألف حديث ؟
قال الإمام أحمد: أَرْجُـوا.
حياته الزوجية:
تزوَّجَ وعُمْـرهُ أربعون سنة، يقول عن زوجـتـه: مكـثـنا عِشرينَ سنة ما اختلفنا في كلمةٍ واحدة.
الفتنة التي تعرَّضَ لها الإمـام أحمـد:
لمَّا دعا المأمون الناس إلى القول بخلق القرآن، أجابه أكثر العلماء والقضاة مُكْرهين، واستمر الإمام أحمد ونفرٌ قليل على حمل راية السنة، والدفاع عن معتقد أهل السنة والجماعة.
قال أبو جعفر الأنباري: لمَّا حُمِلَ الإمام أحمد بن حنبل إلى المأمون أُخْبِرتُ فعبرتُ الفُرات، فإذا هو جالس في الخان، فسلمتُ عليه، فقال: يا أبا جعفر تعنَّيْت ؟ فقلتُ: ليس هذا عناء.
وقلتُ له: يا هذا أنت اليوم رأس الناس، والناس يقتدون بكم، فو الله لئن أجبتَ ليُجيبُنَّ بإجابتك خلقٌ كثير من خلقِ الله تعالى، وإنْ أنتَ لم تُجِبْ ليمتنِعُنَّ خلقٌ مِنَ الناس كثير، ومع هذا فإنَّ الرجل إنْ لم يقتلك فإنَّك تموت، ولابدَّ مِنْ الموت، فاتَّـقِ الله ولا تُجيبهم إلى شيء.
فجعل أحمد يبكي ويقول: ما شاء الله، ما شاء الله. ثم سار أحمد إلى المأمون فبلغه توعد الخليفة له بالقتل إنْ لم يُجبه إلى القول بخلقِ القرآن، فـتوجه الإمام أحمد بالدعاء إلى الله تعالى أنْ لا يجمع بـيـنه وبين الخليفة، فبينما هو في الطريق قبل وصوله إلى الخليفة إذ جاءه الخبر بموت المأمون، فَرُدَّ الإمام أحمد إلى بغداد وحُبِس، ثم تولَّى الخلافة المعتصم، فامتحن الإمام أحمد.
وكان مِنْ خبر المحنـة أنَّ المعتصم لمَّا قصد إحضار الإمام أحمد ازدحم الناس على بابه كيوم العيد، وبُسِطَ بمجلسه بساطاً، ونُصِبَ كرسيـاً جلس عليه، ثم قال: أحضروا أحمد بن حنبل، فأحضروه، فلمَّا وقف بين يديه سَلَّمَ عليه، فقال له: يا أحمد تكلم ولا تَـخَـفْ، فقال الإمام أحمد: والله لقد دخلتُ عليك وما في قلبي مثـقال حـبَّـةٍ من الفزع، فقال له المعتصم: ما تقول في القرآن ؟
فقال: كلام الله قديم غير مخلوق، قال الله تعالى: { وَإنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ } [ التوبة: 6 ]
فقال له: عندك حجة غير هذا ؟ فقال: نعم، قول الله تعالى: { الرَّحْمَنْ * عَلَّمَ القُرْآنْ }. [ الرحمن: 1، 2 ]، ولم يقـل: الرحمن خلق القرآن، وقوله تعالى: { يس * والقُـرْآنِ الْحَكِيم } [ يس: 1، 2 ]، ولم يقـل: يس والقرآن المخلوق.
فقال المعتصم: احبسوه، فحُبِسَ وتفرَّقَ الناس.
فلمَّا كان مِنَ الغد جلس المعتصم مجلسه على كرسيه وقال: هاتوا أحمد بن حنبل، فاجتمع الناس، وسُمعت لهم ضجة في بغداد، فلمَّا جيء به وقف بين يديه والسيوف قد جُردت، والرماح قد ركزت، والأتراس قد نُصبت، والسياط قد طرحت، فسأله المعتصم عمَّا يقول في القرآن ؟
قال: أقول: غير مخلوق.
وأحضر المعتصم له الفقهاء والقضاة فناظروه بحضرته في مدة ثلاثة أيام، وهو يناظرهم ويظهر عليهم بالحُجج القاطعة، ويقول: أنا رجـل عَلِمتُ علماً ولم أعلم فيه بهذا، أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله ــ صلى الله عليه وسلم ــ حتى أقول به.
وكلما ناظروه وألزموه القول بخلق القرآن يقول لهم: كيف أقول ما لم يُقـل ؟ فقال المعتصم: قهرنا أحمد.
وكان من المتعصبين عليه محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم، وأحمد بن دُوَاد القاضي، وبشر المريسي، وكانوا معتزلة قالوا بخلق القرآن، فقال ابن دُوَاد وبشر للخليفة: اقـتله حتى نستريح منه، هذا كافر مُضِـل.
فقال: إني عاهدتُ الله ألا أقـتله بسيف ولا آمر بقـتله بسيف، فقالا له: اضربه بالسياط، فقال المعتصم له: وقرابتي من رسول الله ــ صلَّى الله عليه وسلم ــ لأضربنَّك بالسياط أو تقول كما أقول، فلم يُرهبه ذلك، فقال المعتصم: أحضروا الجلادين، فقال المعتصم لواحد منهم: بكم سوطٍ تـقـتله ؟
قال: بعشرة، قال: خذه إليك، فأُخْرِجَ الإمام أحمد من أثوابه، وشُدَّ في يديه حبلان جديدان، ولمَّا جيء بالسياط فنظر إليها المعتصم قال: ائـتوني بغيرها، ثم قال للجلادين: تقدموا، فلمَّا ضُرِبَ سوطاً..
قال: بسم الله، فلمَّا ضُرِبَ الثاني قال: لا حول ولا قوةً إلاَّ بالله، فلمَّا ضُرِبَ الثالث قال: القرآن كلام الله غير مخلوق، فلمَّا ضُرِبَ الرابع قال: { قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا } [ التوبة: 51 ].
وجعل الرجل يتقدَّم إلى الإمام أحمد فيضربه سوطين، فيحرضه المعتصم على التشديد في الضرب، ثم يـتنحَّى، ثم يتقدَّم الآخر فيضربه سوطين، فلمَّا ضُرِبَ تسعة عشر سوطاً قام إليه المعتصم فقال له: يا أحمد علام تقتـل نفسك ؟ إني والله عليك لشفيق.
قال أحمد: فجعل عجيف ينخسني بقائمة سيفه وقال: تريد أنْ تغلب هؤلاء كلهم ؟ وجعل بعضهم يقول: ويلك ! الخليفة على رأسك قائم، وقال بعضهم: يا أمير المؤمنين دمه في عنقي اقـتله، وجعلوا يقولون: يا أمير المؤمنين: إنه صائم وأنت في الشمس قائم، فقال لي: ويحك يا أحمد ما تقول ؟ فأقول: أعطوني شيئاً من كتاب الله وسنة رسوله ــ صلَّى الله عليه وسلم ــ حتى أقول به.
ثم رجع الخليفة فجلس ثم قال للجلاد: تقدمَّ، وحَرَّضه على إيجاعه بالضرب.
قال الإمام أحمد: فذهب عقلي، فأفقت بعد ذلك، فإذا الأقياد قد أُطلِقت عنِّي، فأتوني بسويق فقالوا لي: اشرب وتـقيأ، فقلت: لستُ أُفطر، ثم جيء بي إلى دار إسحاق بن إبراهيم، فحضرتُ صلاة الظهر، فـتقدَّم ابن سماعة فصلى، فلمَّا انفـتل من الصلاة قال لي: صليتَ والدمُ يسيل في ثوبك، فقلت له: قد صلَّى عمر ــ رضي الله عنه ــ وجرحه يسيل دمـاً.
ولمَّا ولِّيَ الواثق بعد المعتصم، لم يتعرض للإمام أحمد بن حنبل في شيء إلاَّ أنَّـه بعث عليه يقول: لا تساكنِّي بأرضٍ، وقيل: أمره أنْ لا يخرج من بيتـه، فصار الإمام أحمد يختفي في الأماكن، ثم صار إلى منزله فاختـفى فيه عدة أشهر إلى أنْ مات الواثق.
وبعد ذلك تولَّى الخلافة المتوكل بعد الواثق، فقد خالف ما كان عليه المأمون والمعتصم والواثق من الاعتقاد، وطعن عليهم فيما كانوا يقولونه من خلق القرآن، ونهى عن الجدال والمناظرة في الأداء، وعاقب عليه، وأمر بإظهار الرواية للحديث، فأظهر الله به السُـنَّـة، وأمات به البدعة، وكشف عن الخلق تلك الغُمَّـة، وأنار به تلك الظُلمة، وأطلق من كان اعـتُـقِـلَ بسبب القول بخلق القرآن، ورفع المحنـة عن الناس.
* قال أحد الجلادين بعد أن تاب: لقد ضربت الإمام أحمد ( 80 ) جلدة، لو ضربـتُها في فيل لسقـط.
فَرَحِمَ اللهُ هذا الإمام الجليل أحمد بن حنبل، الذي ابتُـليَ بالضرَّاء فصبر، وبالسرَّاء فشكر، ووقف هذا الموقف الإيماني كأنـه جبلٌ شامخ، تـتكسَّرُ عليه المِحَنْ، وضَرَبَ لنا مثـلاً في الثبات علـى الحـق...